الشكوى لغير بلامبلي مذلّة

لا مشكلة رئاسية في إطلاق النار على «هيبة الدولة» المشكلة في شتم هيبة الدولة (مروان بو حيدر)
بانضمام البطريرك بشارة الراعي إلى ثنائي ميشال سليمان ـ وليد جنبلاط، باتوا يحتاجون إلى لاعب واحد مثل النائب ميشال المر للعب الورق؛ «أربعمئة» أو «طرنيب»، أو أي شيء آخر، يسليهم في ليالي الصيف الطويلة
غسان سعود

لم يكن الرئيس ميشال سليمان رجلاً عادياً حين كان الجيش السوري واستخباراته «ينغلان» في لبنان بين عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٥. كان فخامته قائداً للجيش وأكثر المعنيين بحرية البلد واستقلاله. لكن الجيش المؤتمر بأوامره كان يقمع التظاهرات والاعتصامات الجامعية السلمية المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال. لم يكن ميشال سليمان، يومها، يشعر بأن وجود جيش غير جيشه على أرضه وهو قائد للجيش يمس كرامته، تماماً كما لا يشعر اليوم بأن مرابضة «الجيش السوري الحر» في المستشفيات اللبنانية، ودخوله إلى عرسال وبعض قرى العرقوب وخروجه منها من دون حسيب أو رقيب، تمس هذه الكرامة.
ورغم الشبهات التي تحوم حول قتل هذا «الجيش» أكثر من سبعة عناصر من جيش الدولة التي يرأسها سليمان، وغدر إخوته في العقيدة في طرابلس بأكثر من سبعة عشر آخرين في العامين الماضيين، لم ينتفض فخامته، فيهاتف صديقه «أمير الربيع العربي» الذي «سيذكره التاريخ» ليطلب منه أن يكف شرّ سلفييه عن الجيش اللبناني. ولم يترك لصديقه الآخر، الرئيس الأميركي باراك أوباما، رسالة على المسجّل الصوتي للبيت الأبيض الصوتي مفادها أن سلفيّي أوباما الجهاديين، يقتلون جيشاً لا ناقة له ولا جمل. ولكن، ما كادت مروحية سورية تغير على مجموعة مسلحة اجتاحت ــــ قبل الغارة ــــ الأراضي اللبنانية الحرة السيدة المستقلة، التي يتفرج جيشها بحكم أوامر القائد الأعلى للقوات المسلحة على المسلحين يعبرون الحدود، حتى استنفر فخامته، فعلا ضغط الكرامة الوطنية، وشرع يكتب إلى الأمم المتحدة رسالة احتجاج.
لا مشكلة في صواريخ «النصرة» وأخواتها التي تقتل أبرياء في الهرمل. المشكلة في الغارة السورية التي تقتص من مطلقي الصواريخ. عاب فخامته على وزير الخارجية أخذ وقته في قراءة الرسالة لفهم ما يريده الرئيس، وهو أمر يصعب فهمه، خصوصاً أن المذكرة تعترض في الشكل على الاعتداءات التي تتعرض لها الأراضي اللبنانية من كافة الجهات المتصارعة في سوريا. وفي حسابات الرئيس أن الأمور في الخارجية والعلاقات الدبلوماسية يمكن أن تكون مماثلة لما هي عليه في بعبدا: نكتب سطرين ونضع عنواناً برّاقاً ونضم الرسالة إلى قائمة «الإنجازات». وفي النتيجة، تصرف الرئيس: «استدعى» الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي وسلّمه المذكرة. وعليه، قد يلتئم مجلس الأمن وحلف الناتو فوراً ويقرران فرض حظر جوي فوق سوريا، ووضع الأسطول الأميركي في تصرف «أبو القعقاع السوري»، والقوات البرية البريطانية بتصرف «أبو البراء»، للإجهاز على النظام السوري وحماية السيادة اللبنانية. وفي المناسبة، قد لا تضاهي مذكرة سليمان في التأثير في مجريات الأحداث إلا مذكرة فؤاد السنيورة، ليقرر العالم ما يجب عليه فعله.
طريقة تعامل القصر الرئاسي مع ما يحصل حوله اتضحت أكثر في حادثة أخرى أمس: بدل استدعاء الرئيس، بوصفه المؤتمن على الدستور، أعضاء المجلس الدستوري للتحقيق في أسباب تغيبهم عن الجلسات المخصصة لبتّ طعن الرئيس في قانون تمديد ولاية المجلس النيابي، يستدعى شتّام يلوّث الحرية الافتراضية بشتائمه للتحقيق معه. لا مشكلة رئاسية في إطلاق النار على «هيبة الدولة»، شمالاً وبقاعاً وفي صيدا والمجلس الدستوري. المشكلة في شتم هيبة الدولة هذه.
وعزاء ميشال سليمان الذي ما دأب يبحث عن شريك يقف إلى جانبه غير النائب وليد جنبلاط، أن البطريرك بشارة الراعي خرج أخيراً من الظل ليقف علانية إلى جانبهما. ففي «زيارته» الأخيرة للبنان، أكد الراعي حقيقة ما كان يشاع في بعض الصالونات السياسية عن أن مطران جبيل السابق وكبير موظفيها في الإدارة الرسمية هما وجهان مختلفان لمشروع سياسي واحد.
ففي وقت كان يفترض فيه بالبطريرك الماروني نصب خيمة في المجلس النيابي ليضمن إقرار اقتراح القانون الماروني (الذي وصف بـ«الأرثوذكسي»)، فضّل ترك ما تبقى من رعيته يتخبطون في الفشل هنا ليطمئن على رعيته في أميركا اللاتينية. وبدل تكثيف مشاوراته، هنا، لضمان إقرار قانون انتخاب، شغل نفسه بمطولات لا معنى لها عن قانون الانتخاب هناك. يخطف «الثوار» السوريون مطرانين في سوريا ويتعرض الخزان المسيحي الأكبر في بلاد الشام لثقب مخيف، والبطريرك يتذوق الفاكهة اللاتينية. وبدل توجهه من المطار إلى مقر المجلس الدستوري حفاظاً على المؤسسات والمواعيد الدستورية التي جعلت بكركي احترامها في السابق شغلها الشاغل، حمل البطريرك في عظته الأحد الماضي على «الفساد الأخلاقي الظاهر في الإعلانات على الطرقات ووسائل الاعلام»، من دون توقف عند تطيير الفرصة الاستثنائية التي سنحت لتغيير قانون الانتخاب. شكا الراعي من سوء ٨ و١٤ آذار، ليخلص إلى عدم إيجاد أحد يعول عليه في هذه الجمهورية غير «رمز وحدة الوطن الذي يسهر على احترام الدستور وسلامة لبنان ووحدته». ولم يلبث الراعي، بتبنيه نظرية جنبلاط وسليمان في شأن الحكومة الحيادية، أن أحلّ أمس نظرية «العربة من دون حصانين» محل نظرية سلفه البطريرك المتقاعد نصرالله صفير عن العربة والحصانين. فلا حاجة إلى انتخابات ولا إلى انبثاق حكومة تراعي في تشكيلها النسب النيابية. يمكن الرئيس الحيادي جداً ميشال سليمان تحديد من هم الحياديون وتشكيل حكومة من خيرتهم.
والوقائع المارونية من عكار إلى رميش، مروراً بغالبية «الزنقات» التي زارها البطريرك، تؤكد أن ما حققته الرئاسة الأولى في خمس سنوات، إنما حققه المطران الأول في عامين: مجرد فقاعات. تجتمع القيادات المارونية في بكركي لتختلف، فتعتبر البطريركية الاجتماع «إنجازاً». يزور البطريرك قرية لا يسكنها ربع أبنائها فتغدو الزيارة هي «الإنجاز». لم يتغير شيء في المؤسسات التي كان الكرسي الرسولي يأمل نفض الغبار عنها وتنظيفها من الفساد المعشّش فيها حين أحلّ الراعي محل صفير. ولم يتغير شيء في الخوف المهيمن على ما تبقى من مسيحيي المنطقة، كما كان يأمل الكرسي الرسولي. ولا عرفت البطريركية كيف تستوعب الخلافات السياسية وتبتدع حلولاً لها، بدل رمي المتصارعين في البحر كما يدعو البطريرك اليوم، أو الانحياز إلى إحدى وجهتيها كما فعل سلفه.
ثلاثي جنبلاط ــــ الراعي ــــ سليمان يلعب، في الوقت الضائع، ألعاباً لا تؤثر فعلياً في مجريات الأحداث ونتائجها. وهم لا يشغلون، مجتمعين، ولو مساحة الشريط الإخباري الرفيع في أسفل الشاشة.

منو الله